من سنين كتير، شاف صلاح جاهين، فقال.. وقف الشريط في وضع ثابت/ دلوقتي نقدر نفحص المنظر/ مفيش ولا تفصيله غابت/ وكل شيء بيقول وبيعبًر/ من غير كلام ولا صوت/ أول ما ضغط الموت على زر الملكوت/ بخفة وبجبروت في يوم أغبر/ وقف الشريط في وضع ثابت/ خلِي المكنجي يرجع المشهد/ عايز أشوف نفسي زمان وأنا شاب/ وأنا مش عاجبني جن ولا إنسان/ قال المكنجي غور.. مفيش/ فيه ألف مليون شاب انظر ليهم واتذكر/ انظر وشوف الآن/ بكره، بقى امبارح ف حضن زمان/ وبعد بكره فوق همومك فات/ مفيش شريط مأجور ولا خوًان/ ولا شريط له ثبات.
في هذا اليوم من 34 سنة، رحل صلاح جاهين وعمره 56 عاما، وعاشت كلماته ترسم وتصف وتتغزل في الانسان، تواسيه وتضحكه من سذاجته وهيافة أطماعه.. تلح عليه أن يعيش إنسان، يحب ويتحب لكن لابد يقول ويعمل الحق ولو راح في ستين داهية! استمر جاهين يضخ الإنسانية في القلوب، ويوقظ بصيرة كل راغب، يلهب أحاسيس البار والغافل بالمحبة التي هي الداء والدواء.. رباعياته صدمات استدعاء النبض للقلب الحجر والخامل والمذعور، قصائده ورباعياته ترمح فوق شريط الحياة غدا ومنذ الأزل، لا يتغير في مسرحها إلا لغة الحوار، وتجاوب السميعة.
عاش وسيعيش صلاح جاهين، مثل كل شاعر بصير يؤمن بالحق والعدل والرحمة ويستشهد ليفدي هذه القيم.. هو مثال للمستحقين موهبة الشعر، فقد تهلل وتعذب وقاتل بها، صعد جبالها وفتح كهوفها يتلمس أيادي الفقير والمهموم وجريح القلب والمظلوم.. يصرخ عنهم، ويَلْحَقَهم ببلسم الكلمة الطيبة، أو ميثاق الثورة.. دق جاهين أجراس الكنائس والمصانع في أفراح وأحزان الوطن.. قرع طبول حروبها، ألهب الهمم.. صعد مآذنها ينادي ويجلجل حي على الفلاح.. فتًح براعم زهور الصبية والولد.. هو فيلسوف وصياد ونجار قلوب وحداد متاريس الإنسانية.. داؤه وسلاحه هو إحساسه، لذلك كسرته هزيمة 67، باغتته وهو يجمع لها زهور النصر، وعاجله الانفتاح بالقاضية، لما انفتحت بواباتنا للغريب واللئيم قبل أن نتحصن بالعلم والوعي.. فآثر الانسحاب لأنه أحبها بعنف وعلى استحياء، ولعن أبوها بعشق، وهرب منها إلا في الكرب، رحل وعاشت أشعاره نبراسا للحب وللإنسانية.
وجاء إعصار فيروس مثبتا الشريط الذي صوره جاهين في قصيدته، وها نحن ننظره يُلزمنا بوقوف اجباري لحين نُبصر حالنا، نُسقط الروبابيكيا عن كاهلنا، نجدد أحلامنا، نغربل قمحاتنا، نخرج من مخبأ الموبايل، ننظر في المرآة لنتعارف بدون تجميل، لنخطو جسر الحياة أبرياء.
ما تبقي من الرحلة القصيرة يفرض الاعتذار للنفس وللكون.. والاجتهاد لترك أثرا طيبا يشفع لنا، ولنقرأ بمزاج " انشد يا قلبي غنوتك للجمال/ وارقص في صدري م اليمين للشمال/ ماهوش بعيد تفضل لبكرة سعيد/ دا كل يوم فيه ألف ألف احتمال..وعجبي".
-----------------------
بقلم: منى ثابت